بسم الله الرحمن الرحيم
هاهو رمضان خطى عشر خطوات ! ها هو رمضان مثل ما كان طيفاً قادماً وحلماً رائعاً عاد حقيقة بين المتطلعين له !
إن هذه الخطوات العشر التي رحلت من رمضان رحلت وهي تتحدّث فَرِحة في حياة إنسان تقول وهي تصف حاله في لحظاتها : لم تفته صلاة الجماعة في أيامي كلها ! بل أوسع من هذا بكثير .. لم يفته الصف الأول ، ولا تكبيرة الإحرام ، بل أشهد أنني رأيته يسابق المؤذن أويكاد !
تحدثت فرحة وهي تشهد أن صاحبها ختم القرآن ، أو كاد ، وشهدت أنها رأته يتنقل بين رَحِمِه زائراً ومباركاً ومهنئاً بالشهر ..!
ومضت تقول أجزم أنه لم يتكلم بغيبة من تاريخ أول خطوة إلى نهايتها هذه اللحظات ، ولا رأيته يتكلم في عرض إنسان ، ويترفّع عن دنس هذه المجالس ، بل كان يصوم وهو يرقب حديث نبيه صلى الله عليه وسلم " من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه "
ومضت تقول : لم يتصدق صاحبي مرة ولا مرتين ولا ثلاث ، بل أشهد أنه تصدق في كل يوم بصدقة عامة ، وفطّر كل يوم مسكيناً ، وشارك جاهداً في إيصال الخير لكل صائم ..
أما التراويح فنور على نور ، جَمّلَها ببكوره فيها ، وخشوعه في لحظاتها ، وتأمله فيما يقرأ في زمنها ووقتها .. !!
واستمرت تقول في وصف صاحبها : رأيته يحرص على متابعة المؤذن ، ودفع الأذى عن الطريق ، ومساعدة الآخرين ، ورأيته وهو يجهد في استثمار كل فرصة تسنح له متيقظاً للحظات شهره عارفاً بقدره ومكانه .
إن هذه شهادة كتبتها عشرة أيام من حياتك في رمضان بالذات وشهدت بها عند الله تعالى ، ورفعت في كتاب لا يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها .. فمن هو صاحب هذه اللحظات ! ومن هو كاتب هذا الإنجاز ! ومن هوكبير هذه الذكريات .. ؟!
إنها لحظات إنجاز كتبها رجل دخل رمضان وهو يدرك أنه فرصة .. وسجلها إنسان وهو يعلم أنها لحظات قد لا تعود ، ودونتها همة رجل ، وتاريخ إنسان كبير على ظهر الأرض .. فيا لله ما أروعه من إنجاز ! وما أعظمه من تاريخ !
وعادت الخطوات العشر تسرد علىّ حديث أسف ، وتوجه إليّ عتاباً حاراً في هذه اللحظات .. قائلة : رأيته متخلفاً عن صلاة الجماعة ! وعثرت عليه في لحظات كثيرة في فراش النوم ، وغرّه عن لحظاتي الجميلة شهوة نفس فضاعت صلوات في الجماعة ولم أعد أبحث عنده عن تكبيرة الإحرام ، ولا الصف الأول ، ولا الخشوع والبكاء ، ذهبت معالم كبار من حياته فكيف لي أن أسال عن ما هو دونها وأقل منها ..؟!
حتى التراويح شهدت قائلة ضعت منه في ساعة غفلة ! وتركني في لحظة لهو ، وتأخر عني حتى رأيته ولأكثر من مرة في عداد الخوالف .. ولم أعد أحرص على لحظة خشوع منه أو تدبر لقراءة إمام .
أما الصدقة فقد تعاظم المال في يده حتى زهد فيها ، وتغافل عنها خشية الفقر ، وخوف الفاقة ، وكان للشيطان منه نصيب وافر ، وتحقق في هزيمة اليأس التي كتبها الشيطان كما قال الله تعالى " الشيطان يعدكم الفقر "
ورَحِمَه لا زال شاكياً من الهجر ، باكياً للفراق ، متألماً للقطيعة ، لم تفلح لحظات رمضان أن تعيد إليه صفاء قلبه المسلوب ، ولا لحمة قرابته ونسبه المفقود ، وما زال قلبه مكتظاً بالوحشة والهجر والقطيعة ، فلا مقطوعاً وصله! ولا مهجوراً أعاد صلته ! ولا قريباً أو مسكيناً أو ضعيفاً وصله .
أما القرآن فحديث كبير في حق كتاب الله تعالى .. سمع قول الله تعالى " شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن " أول ما سمع برمضان فنسيه في لحظة اللقاء ، ودليل ذلك أنه لا زال في الجزء الأول ، أو الثاني لم يبرح البداية ، ينازع نفسه لا يجد رغبة ملحة ، ولا هوى يدفعه للحظات هذا القرآن الكريم ، يحاول .. ويحاول لكن دون جدوى .. !
هذه شهادة العشر الخطوات الأولى في تاريخ شهرك ، وأنت أيها السامع لهذه الشهادة حتماً أنك في أحد هذين الرجلين .. هذه شهادة في الدنيا فانظر لقلبك هذه اللحظة كم هو سروره بلحظات الإنجاز والحياة الرائعة ؟
وكم هو شعوره بالانتصار في هذه اللحظات ؟
وكم هو تاريخه الحافل خلال هذه الخظوات ؟
وتأمل قلبك كذلك كم هو حزنه بلحظات التأخر والتخلف عن الحياة الكريمة ؟
وكم هو شعوره بالندم في هذه اللحظات ؟ وكم هي لحظات أسفه وتندمه لضياع الفرصة وهو في أوج عافيته وكمال صحته ؟
إنها لحظات تدعو لمسائلة نفسك :
تُرى كم بقي من عمرك في هذه الدنيا ؟
هل تعلم موعد رحلتك ..؟!
لو خيّل إليك أن تلقى الله تعالى اليوم .. هذه اللحظة .. في رمضان .. في عامك الهجري الحالي ، هل ستفرح بلقائه ؟
أو تشتاق لرؤيته وسؤاله ؟
أجب قبل فوات الفرصة واللحظة من حياتك .
قَبْرُك .. تلك الحفرة التي بكى لرؤيتها عثمان بن عفان رضي الله عنه قائلاً إن القبر أول منازل الآخرة فإما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار.
لحظة سكرات الموت ومعاينة الأجل ما هي أفراحك فيها ؟
وما هي أحزانك خلال دقائقها ولحظاتها ؟
كثيرون رحلوا وهم يأملون ! وكثيرون رحلوا وهم راغبون ! وكثيرون رحلوا وهم حالمون بالأمنيات ..
وفجأة رحلوا فهل تُرى ينفع الأسف في رحيلهم ؟
والبكاء في وداعهم ؟
أم أنها الخسارة لا يعدلها شيء ..!
جَدُّك هناك حتماً ! ويمكن أن يكون هناك أباك ! ويمكن أن تكون أمك أو أختك أو أخاك أو زميلاً أو صديقاً تركوك من زمن وأبقوا في قلبك العظة والعبرة فلماذا لا زلت تراوح ...؟!
هب أنك غداً رحلت من الدنيا ! أو مرضت فحبست على سرير المرض ليس بك حراك ! هل لديك ما تستعتب به من ربك ؟
أم أنها لحظات الأسف والبكاء والحسرات والندامات .. ؟!
يمكنك أن تأخذ نفسك هذه اللحظات وتقف على القبور الساكنة وتسائل أهلها.. ما ذا وجدوا في قبورهم ؟
ماذا رأوا في رحلة القبر ، وضيق القبر ، ووحشة القبر ، وفرقة الأهل والأصحاب في القبر ؟
لقد بلغك أن نبيك صلى الله عليه وسلم رقى المنبر ، وقال آمين .. ولما سئل قال : جاءني جبريل فقال يامحمد من أدرك رمضان فلم يغفر له فأبعده الله قل آمين فقلت آمين "
فهل لا زال الحديث ماثلاً في مسمعك ، وحياً في قلبك .. وكبيراً في نفسك .. " فأبعده الله " ، فأبعده الله " ، فأبعده الله " هل تعرف معناها وآثارها ؟!
إنها الحرمان والشقاء والبعد والفوضى في حياتك كلها ..
وأذكرك أن " التخلّف عن الطاعة ، والتأخر عن الفضيلة ، والسهو عن المعالي يخشى على صاحبه أن يناله من أثر هذا الحديث " فأبعده الله " وحين يكون كذلك كيف يكون حاله في الدنيا ؟!
عشر خطوات رحلت ، ومهما كان تفريطك لا زالت الفرصة تهتف بك من جديد !
لا زال " قول نبيك صلى الله عليه وسلم " قد جاءكم شهر رمضان فيه تفتح أبواب الجنة ، وتغلق أبواب النار ، وتصفّد الشياطين " حية جذلة في بداية شهرك ..!
لا زالت الخيرات بين يديك ، والفضائل بين ناظريك ، ولئن رحلت عشر خطوات فقد بقي عشرون خطوة !
رحلت أيام قلائل وبقيت أيام كثيرة في حياة الصالحين .. لئن كان منك تفريط فالحق بركب " وخير الخطائين التوابون "
ولئن كان هناك تأخير فلا زالت الفرصة ممكنة " وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون "، " إن رحمة الله قريب من المحسنين